فصل: قال عبد الكريم الخطيب:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال عبد الكريم الخطيب:

68- سورة القلم:
نزولها: مكية..
نزلت بعد العلق..
عدد آياتها: اثنتان وخمسون آية..
عدد كلماتها: ثلاثمائة كلمة..
عدد حروفها: ألف ومائتان وستة وخمسون حرفا..
مناسبتها لما قبلها:
بين هذه السورة، وسورة الملك قبلها، أكثر من مناسبة..
فأولا:
ختمت سورة (الملك) بقوله تعالى: {قُلْ أرأيْتُمْ إِنْ أصْبح ماؤُكُمْ غوْرا فمنْ يأْتِيكُمْ بِماءٍ معِينٍ}.
وفى هذا- كما قلنا- تهديد للمشركين بذهاب هذا النور الذي يرفعه النبي صلى الله عليه وسلم لأبصارهم، من آيات اللّه، وكلماته..
وبدئت سورة القلم بقوله تعالى: {ن والْقلمِ وما يسْطُرُون}.
لتلفت المشركين إلى هذا النور القرآنىّ الذي يكتبه الكاتبون، بعد أن يتلقاه النبي من ربّه، وأنهم إن لم يبادروا إلى الإمساك به في قلوبهم، وحفظه في صدورهم، يوشك أن يفلت من بين أيديهم، فلا يلقوه أبدا..
كما أن في ذكر القلم وما يسطر به الكاتبون، إلفاتا عامّا إلى شأن الكتابة والكاتبين، الذين هم أهل العلم والمعرفة، وأن هؤلاء المشركين امّيون لم ينالوا حظّا من العلم عن طريق الكتابة والكتاب، وها هم أولاء وقد جاءهم رسول كريم، كان مفتتح دعوته دعوة آمرة بالقراءة، ثم تلاها بعد ذلك هذا القسم بحروف الكتابة، وأدواتها- وذلك ليخرجوا من ظلام هذا الجهل الذي غطّى على أعينهم، وحال بينهم وبين أن يهتدوا إلى هذا النور الذي يدعوهم الرسول الكريم إليه.. فالجهل هو الآفة التي أفسدت على هؤلاء المشركين رأيهم في دعوة السماء لهم إلى الإيمان، ولو أنهم أخذوا حظّا من العلم، لاستقام طريقهم على الحق، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {هُو الّذِي بعث فِي الْأُمِّيِّين رسُولا مِنْهُمْ يتْلُوا عليْهِمْ آياتِهِ ويُزكِّيهِمْ ويُعلِّمُهُمُ الْكِتاب والْحِكْمة وإِنْ كانُوا مِنْ قبْلُ لفِي ضلالٍ مُبِينٍ} (2: الجمعة).
وثانيا: جاء في ختام سورة (الملك) قوله تعالى: {قُلْ أرأيْتُمْ إِنْ أهْلكنِي اللّهُ ومنْ معِي أوْ رحِمنا}- وفى هذا ما يشير إلى نظرة الكراهية والاستثقال التي ينظر بها المشركون إلى النبي، وإلى مقامه فيهم، حتى إنهم ليتمنون زواله من بينهم.. وجاء في مفتتح سورة (القلم) ما يضفى على النبي الكريم حلل التكريم والتمجيد التي خلعها عليه ربّه، فوصفه سبحانه بهذا الوصف الربّانىّ، الذي لو قسّم في الخلق جميعا لأرضاهم، وأغناهم، وأسعدهم، فيقول اللّه سبحانه: {وإِنّك لعلى خُلُقٍ عظِيمٍ}.
وفى هذا ما يكبت المشركين، ويملأ قلوبهم حسرة وكمدا.
قوله تعالى: {ن والْقلمِ وما يسْطُرُون}.
اختلف المفسرون في تأويل كلمة {ن} فأضافوا إليها مفهوما جديدا غير تلك المفاهيم الكثيرة التي تشارك فيها غيرها من الحروف التي بدئت بها أوائل السور.. فهى بهذه المفاهيم.. حرف من تلك الحروف، يقع عليها الخلاف الذي وقع في هذه الحروف وكثرت المقولات فيها..
أما المفهوم الخاص الذي جعل لهذه (الكلمة)، أو هذا الحرف، فهو أن يراد به ما يقال عن (الحوت) العظيم الذي تقوم عليه الأرض، كما يزعم لزاعمون.. وكأنّ المفسرين قد نظروا في هذا إلى قوله تعالى: {وذا النُّونِ إِذْ ذهب مُغاضِبا فظنّ أنْ لنْ نقْدِر عليْهِ} (87: الأنبياء) ثم إلى ما جاء في قوله سبحانه في هذه السورة: {فاصْبِرْ لِحُكْمِ ربِّك ولا تكُنْ كصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وهُو مكْظُومٌ} [الآية: 48].. فالسورة تبدأ بالحرف {ن} وفى خاتمتها يذكر {صاحب الحوت}. وصاحب الحوت هو {ذو النون}.
أي يونس عليه السلام.. وإذن فهذه قرأئن على أن حرف {ن} هو اسم للحوت!.. هذا ما نحسب أن المفسّرين الذين قالوا إن {ن} هي الحوت، قد نظروا إليه، وأخذوا قولهم هذا عنه.
ولكن أي حوت هو؟ أهو الحوت الذي ابتلع يونس عليه السلام؟ وكلّا فإن الحوت الذي يقسم اللّه سبحانه وتعالى به، يجب أن يكون ظاهرة فريدة من ظاهرات الوجود.. ليكن إذن هو الحوت الذي تتحدث عنه قصة أو قصص خلق العالم، التي كانت تعيش في خيال كثير من الأمم والشعوب!! إن هذا الحوت الذي يقال إنه يحمل الأرض، أو بمعنى أدقّ، يحمل الثور الذي يحمل الأرض بقرنه- هو من مواليد الخرافات والأساطير، وما يروى عنه من مقولات تضاف إلى الصحابة أو التابعين، هو أحاديث مكذوبة على هؤلاء السادة الأعلام، الذين يرفعهم قدرهم ودينهم عن أن يقولوا بغير علم، والذين لو ثبت لهم قول، لكان هذا القول من الحق المتلقّى من نور النبوة، ولما اصطدم أبدا مع واقع الحياة، وما يكشف عنه العلم من حقائق.
فالحرف، أو الكلمة {ن} هي من المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلا اللّه، والراسخون في العلم، الذين يعرفونه بإحالة المتشابه على المحكم، والذين هم على الإيمان به إيمانهم بالمحكم.. إذ {كُلٌّ مِنْ عِنْدِ ربِّنا}.. هذا من حيث المعنى.. أما من حيث اللفظ، فإن لهذا الحرف أثره في صورة النظم الذي جاءت عليه السورة.. حيث كانت فواصلها تنتهى بمقطع أشبه بلفظ {نون}.
أي أنه مقطع مكون من ثلاثة أحرف، أولها متحرك، وثانيها حرف مدّ ساكن يتبع هذه الحركة، وثالثها حرف ساكن بالوقف عليه.
وهذا للقطع الذي يمثله حرف {ن} الذي ينطق هكذا: {نون} هو لازمة النغم الموسيقى الذي تضبط عليه فواصل الآيات في السورة كلها.. مثل: يسطرون.. مجنون.. عظيم.. مفتون.. إلى خاتمة السورة.
وقوله تعالى: {والْقلمِ وما يسْطُرُون} هو معطوف على {ن} المقسم به أي أقسم بنون، والقلم وما يسطرون.. والمراد بالقلم، هو أداة الكتابة، التي يكتب بها العلماء، العلوم والمعارف.. فهو نعمة من نعم اللّه الجليلة، التي تخطّ على الصحف ثمرات العقول، ونتاج الأفهام.
وقد نوه سبحانه وتعالى بالقلم، ورفع قدره، فكان أول ما وضع بين يدى النبي الكريم في أول آيات افتتحت بها رسالته: {اقرأ بِاسْمِ ربِّك الّذِي خلق خلق الْإِنْسان مِنْ علقٍ اقرأ وربُّك الْأكْرمُ الّذِي علّم بِالْقلمِ علّم الْإِنْسان ما لمْ يعْلمْ} (1- 5: العلق) وفى القسم بما يسطر الكاتبون بالقلم- إشارة إلى أن هذه الأداة المكرمة ينبغى ألا يكتب بها إلا ما كان من الحق والخير، وإلا ما كان دعوة إلى هدى وتوجيها إلى خير.. إنه أداة تسجيل العلوم والمعارف وحفظها، وهو ينقل عن الإنسان نتاج تفكيره، وثمرات عقله، ويقيم له بهذا ذكرا خالدا في الحياة، بقدر ما يحمل القلم عنه من خير، وما ينشر من نفع، فكان لهذا جديرا بأن يصان من أن يخطّ باطلا، أو يسجل لغوا.. وقوله تعالى: {ما أنْت بِنِعْمةِ ربِّك بِمجْنُونٍ} هو جواب القسم.. وهو تكذيب لهذه التهمة الحمقاء التي كان المشركون يرمون بها النبي، حين جاءهم يقول لهم: إنه رسول اللّه، وإنه يتلقى آيات اللّه التي يحملها إليه رسول الوحى جبريل عليه السلام.. فلقد هالهم هذا الأمر، واستعظموه، ورأوا أن القول به لا يكون من عاقل، لأنه لا يقع في تصورهم أن يكون إنسان على اتصال بعالم السماء، وبرب السماء! إن اتصال الرسول باللّه، ومخاطبة الملك له، يعنى عندهم أمرا مستحيلا، أشبه بمن يقول لهم: إنى أنا الذي أرسيت هذه الجبال بيدي، فلا يرون في قائل هذا القول إلا أنه يهذى هذيان المخمور، أو المحموم، أو المجنون..
والباء في قوله تعالى: {بمجنون} حرف جر، ومجنون خبر المبتدأ {أنت} أي: ما أنت بذي جنة، وفائدة حرف الجر هنا، أنه يقوم حجازا فاصلا بين النبي، وبين إسناد الجنون إليه..
فهذا الجنون، وإن كان واقعا تحت حكم النفي المسلط على المبتدأ {أنت} إلّا أنه هو حقيقة ثابتة، لم يتناولها النفي الذي وقع على المبتدأ: {ما أنت}.
فالمنفىّ عنه الجنون هنا، هو شخص النبي.. أما الجنون ذاته فإن نفيه عن النبي، إنما جاء تابعا للنفى الواقع على ذات النبي في هذا المقام: {ما أنت}.
أي لست أنت الذي يوصف بهذا الوصف، بل غيرك هو المجنون، من هؤلاء الذين باعوا عقولهم في سوق الغواية والضلال..
وهذا المعنى وإن كان يتحقق مع عدم ذكر حرف الجر، بأن يجيء النظم هكذا {ما أنت مجنون} فإن فيه مواجهة للنبى بهذه الصفة، التي هي أبعد الصفات منه صلوات اللّه وسلامه عليه، إنها داء خطير يتناول وجود الإنسان، ويذهب بكل معالم إنسانيته.. ولهذا جاء مع نفى تلك الصفة عن النبي- هذه المباعدة الادية بينه وبينها، فقام حجاز بينه وبينها بقوله تعالى: {بِنِعْمةِ ربِّك}.
ثم قام حجاز آخر بحرف الجر (الباء).
{ما أنْت بِنِعْمةِ ربِّك بِمجْنُونٍ}.
وفى هذا كله ما يؤكد تلك الحقيقة التي جاءت الآية الكريمة لتقريرها، وهى بعد النبي- بعدا معنويا، وحسيّا- عن أن يلم بحماه الكريم شيء يمسّ عقله في سلامته، وكماله.. ومثل هذا قوله تعالى: {وما أنْت عليْهِمْ بِجبّارٍ} وقوله سبحانه: {لسْت عليْهِمْ بِمُصيْطِرٍ}.
ففى هذين المقامين توكيد لنفى هاتين الصفتين المذمومتين عن النبي: التجبر، والتسيطر.. وهذا آكد وأبلغ في نفى هاتين الصفتين عن النبي، من أن لو جاء النظم هكذا: (ما أنت جبار). (ما أنت مصيطر)، برفع هذه الحواجز المادية التي تحجز السوء عن أن يواجه به النبي، حتى ولو كان هذا السوء واقعا في قيد النفي..
وقوله تعالى: {بِنِعْمةِ ربِّك}- إما أن يكون جملة معترضة بين المبتدأ والخبر، يرادبها الإشارة إلى أن الرسول صلوات اللّه وسلامه عليه في نعمة سابغة من ربه، وهو بهذه النعمة معافى من كل عارض سوء يعرض له في عقله، أو روحه، أو قلبه. فهذا أشبه بمن يقال له: أنت- بحمد اللّه- في عافية، أو أنت- وللّه الحمد- في أمان.. وإما أن يكون قوله تعالى: {بِنِعْمةِ ربِّك}، متعلقا بمحذوف، حال من الضمير المستكنّ في قوله تعالى: {بِمجْنُونٍ}. أي ما أنت بمجنون، والحال أنك محفوف بنعمة ربك..!
قوله تعالى: {وإِنّ لك لأجْرا غيْر ممْنُونٍ} معطوف على جواب القسم: {ما أنْت بِنِعْمةِ ربِّك بِمجْنُونٍ}، وهو وعد من اللّه سبحانه للنبى الكريم، بالأجر العظيم المتصل، غير الممنون، أي غير المنقطع عنه أبدا، وذلك جزاء جهاده، وصبره على ما يلقى من أذى قومه، وسفاهتهم عليه..
والأجر غير الممنون، هو غير المقطوع، أي الدائم المتصل.
ويجوز أن يكون معنى الأجر غير المنون هنا، هو الأجر الذي لا منّة عليك فيه من أحد، أي لا فضل لمخلوق عليك فيه.. فهو فضل خالص من عند اللّه لك، وإنك لأهل له، بما احتملت من أذى في سبيل دعوة الحق التي تدعو إليها.. وفى هذا تنويه بقدر النبي، ورفع لمقامه عند ربه، وأن هذه المنزلة التي يلغها هي- وإن كانت من فضل اللّه- محسوبة من كسب النبي، ومن سعيه المحمود المبرور، عند ربه.
قوله تعالى: {وإِنّك لعلى خُلُقٍ عظِيمٍ}.
هو تقرير لما تضمنه قوله تعالى: {وإِنّ لك لأجْرا غيْر ممْنُونٍ}- فهذا الأجر غير الممنون، هو ثمرة لهذا الخلق العظيم، الذي كان عليه رسول اللّه- صلى الله عليه وسلم.. وحسب رسول اللّه بهذا الوصف الكريم، من اللّه سبحانه وتعالى- حسبه بهذا شرفا وعزّا، حيث توّجه ربه- جلّ وعلا- بتاج الكمال كله، إذ ليس بعد حسن الخلق حلية تتحلى بها النفوس، أو تاج تتّوج به الرءوس.. ففى مغارس الخلق الحسن، كانت رسالات المرسلين، ومن أجل حماية هذه المغارس، وإطلاع ثمرها، كانت دعوة الرسل، وكان جهادهم، الذي توّج بدعوة سيد الرسل، وجهاد خاتم النبيين.. وفى هذا يقول صلوات اللّه وسلامه عليه: {إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق}..
قوله تعالى: {فستُبْصِرُ ويُبْصِرُون بِأيِّكُمُ الْمفْتُونُ}.. هو وعيد للمشركين، وفضح لما هم فيه من ضلال، وأنه سيأنى يوم تنكشف فيه حالهم، ويرون فيه سوء أعمالهم، كما سيرون ما كان عليه ضلالهم في رسول اللّه، وفى مقولاتهم الباطلة فيه..
وقوله تعالى: {بِأيِّكُمُ الْمفْتُونُ} متعلق بالفعلين: {فستُبْصِرُ ويُبْصِرُون} فالفعلان يتنازعان العمل فيه، إذ هما مسلطان عليه.. فالنبى سيبصر، وهم- أي المشركون- سيبصرون، بأيّ- منه أو منهم- المفتون.. والمفتون، هو، الذي فنن بنفسه، وغرّه الغرور، فركب مركب الفتن والضلال، وهو على ظنّ أو يقين بأنه أهدى سبيلا، وأقوم طريقا..
ويكون قوله تعالى: {بِأيِّكُمُ} متعلقا بفعل محذوف دلّ عليه المقام.. أي ستبصر ويبصرون بأيكم تتعلق الفتنة، وبأيكم يتحقق وصف المفتون، أو يتمثل شخصه..
أي فستبصر أيها النبي، وسيبصر المشركون، بأيكم كان الشيطان متلبّسا به، مستوليا عليه، مالكا زمامه؟..
والجواب واضح لا يحتاج إلى بيان، والنبي على يقين منه، وإن كان المشركون عن هذا في غفلة وضلال، وفى ادعاء وغرور.. وهذا مثل قوله تعالى: {وإِنّا أوْ إِيّاكُمْ لعلى هُدى أوْ فِي ضلالٍ مُبِينٍ} (24: سبأ).
قوله تعالى: {إِنّ ربّك هُو أعْلمُ بِمنْ ضلّ عنْ سبِيلِهِ وهُو أعْلمُ بِالْمُهْتدِين}..
أي إنكم إذا لم تعلموا أيها المشركون وأنتم في هذه الدنيا، أنكم مفتونون ضالون، قد أغواكم الشيطان وفتنكم- فإن ربك- أيها النبي- هو أعلم بمن ضلّ عن سبيله، وانقاد لشيطانه، وبمن هو على طريق الهدى ودين الحق، فيجازى كلّا بما عمل. اهـ.